البر بالوالدين
إن حياة البشر مبنية على مراعاة كل واحد لحقوق الآخرين ومن دون هذه المراعاة وهذه الملاحظات فلن تقوم للحياة البشرية أي قائمة، وهذه المراعاة تختلف عمّا هو موجود في حياة الحيوانات حيث إنها تلتزم ببعض تلك الأمور فيما بينها ولكن وفق الغريزة المودعة فيها, أما ما هو مطلوب من بني الإنسان فإن أساسه التعهد...
وبعض هذه التعهدات تتمتع بأهمية أكثر من غيرها، كحقوق الأب والأم. وبحمد الله إن أغلبكم ما زال شاباً ويتمتع بحياة أبيه أو أمه أو كليهما، ولذا أحببت أن أنصحكم في هذا المجال:
ورد في الرواية أن شخصاً سأل الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله ((من ابرُ))أي أنه من بين جميع الذين لي علاقة بهم، الأصدقاء, الزملاء, من له دين, القوي، من الذين ينبغي البر به.
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ((أمك))
فأعاد الرجل السؤال ((من أبر))
فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) : ((أمك))
فكرر الرجل سؤاله ((من أبر))
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ((أمك))
وفي المرة الرابعة قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ((أباك))فمع ما يتمتع به الأب من حق عظيم على أبنائه إلاّ أن حق الأم مقدم عليه, وحق الأب كما ورد عن رسول الله في هذه الرواية متأخر.
وهنا أُحب أن ألفت نظركم إلى أن رعاية حق الوالدين لا تقتصر آثارها على الثواب في الآخرة, بل له آثار ونتائج إيجابية أيضاً في حياة الإنسان بالدنيا، على المستوى المادي والمعنوي وإن كان المسلّم به هو الآثار المعنوية, ولعل له آثاراً مادية أيضاً، وهذه التوفيقات نتيجة طبيعية وفكرية لمثل هذه الأعمال, وهنا أنقل لكم ما أشعر به وهو أن كل ما حصل لي من توفيق في حياتي عندما أراجع نفسي أجد أن تلك التوفيقات لم تحصل لي إلا بسبب عمل صالح قمت به في حياتي وهو البر بأحد الوالدين.
قبل عشرين سنة من وفاة أبي وعندما بلغ السبعين من العمر أصبحت عيناه تعانيان من وجود الماء، عندها كنت أدرس في قم وشعرت من خلال الرسائل التي تصلني منه أنه لا يبصر بالشكل الصحيح، ذهبت إلى مشهد وأخذته إلى الطبيب عدة مرات ثم عُدت حيث أسكن في قم, وعندما عطلت الحوزة دروسها سافرت إلى مشهد وحاولت تطبيبه ولكن لا فائدة, بعدها عدت إلى الدرس في قم.
وفي عام 1343هـ.ش اضطررت إلى أخذه إلى طهران للعلاج على أمل أن يجد العلاج المناسب من أجل استعادت بصره إلا أن الأطباء الذين راجعناهم في طهران أفقدونا الأمل في ذلك حيث قالوا إن المرض أصاب العينين وبالتالي لا أمل في الشفاء ـ طبعاً بعد سنتين شفيت إحدى عينيه وبقي يرى بها حتى وفاته.
عندها أحسست بقلق شديد, أصبحت أتساءل: عندما أترك أبي وأذهب للدراسة في قم فإنه سيكون حبيس الدار ولا يمكنه مزاولة أي عمل وهذا أمر صعب جداً بالنسبة لي حيث كان يأنس بي أكثر من بقية إخواني, عندما أذهب إلى مشهد آخذه إلى الطبيب, وعندما أجلس معه أقرأ له الكتب وأتباحث معه في المسائل العلمية, أما إخواني الباقون فإن الفرصة لا تسنح لهم بذلك، وعلى كل شعرت أني لو رجعت إلى قم وتركته في مشهد فإنه سيكون عضواً عاطلاً وهو أمر صعب جداً بالنسبة لكلينا.
ومن جهة أخرى فإن البقاء معه وترك الحوزة في قم أمر لا يحتمل بالنسبة لي حيث أصبحت أشعر بالراحة في قم وقد سبق أن قررت أن أبقى فيها إلى آخر العمر، خاصة وإن بعض أساتذتي وقت ذاك كانوا يؤكدون عليّ بعدم المغادرة, وقالوا لي في حال بقائك هنا فإنه قد يكون لك مستقبل, فصرت على مفترق طريقين وأصبحت هذه المسألة تؤرقني عندما آخذه للعلاج في طهران.
في أحد الأيام أصابني القلق والاضطراب كثيراً مع أن أكثر عزمي كان على أن أرجعه بعد العلاج إلى مشهد وأعود إلى الحوزة في قم، إلا أنه وبسبب حجم القلق الذي أعانيه والصعوبة التي تمر بي قررت التشاور مع أحد الأصدقاء (يسكن في حسن آباد طهران) وهو من أهل المعرفة والمعنوية فاتصلت به هاتفياً, فرحب بي ووافق على أن أزوره، ذهبت إلى بيته في عصر ذلك اليوم وحكيت له ما أصابني وأخبرته أنني إن أردت الآخرة فهي في حوزة قم, بل إن أردت الدنيا فهي بالنسبة في قم أيضاً؛ ولذا فإن السفر مع أبي والبقاء في مشهد لخدمته تعني فوات دنياي وآخرتي.فتأمل ذلك الرجل قليلاً وقال: ((عليك أن تغادر قم وتذهب إلى مشهد طاعة لله تعالى والذي جعل دنياك وآخرتك في قم قادر على أن ينقلهما إلى مشهد)).
تأملت قليلاً وقلت: ما أعجب هذا الكلام الذي يجعل الإنسان يعرف كيف يتعامل مع الله لقد كنت أتصور أن دنياي وآخرتي في قم إن بقيت فيها لعلاقتي بالمدينة وبالحوزة وبالحجرة التي كنت أسكنها, ولم أكن أتصور أن أعزف يوماً عنها.
أما الآن فإن هذه الجملة تجعلني اصطحب أبي وأذهب معه إلى مشهد وأبقى إلى جانبه, والله سبحانه قادر إذا أراد أن يأتي بدنياي وآخرتي.
إتخذت القرار فانشرح صدري وانتقلت في تفكيري من هذا الجانب إلى الجانب الآخر وأتيت المنزل مستبشراً مطمئناً فتعجب والديَّ من ذلك, وهم الذين شاهدوا قلقي وانزعاجي في الأيام الأخيرة، فقلت لهما: نعم, لقد قررت أن آتي إلى مشهد، فلم يصدقوا في بادئ الأمر لعلمهم بشدة علاقتي بالحوزة العلمية في قم، على كل حال انتقلت إلى مشهد وقد أعطاني الله الكثير من النجاحات والتوفيقات لعملي بتكليفي.
واعتقادي أنه إذا كان هناك نجاح في حياتي فهو بسبب هذا البر بوالدي بل بوالديَّ.ولقد ذكرت لكم هذه القصة حتى تعلموا ما لهذه المسألة (البر بالوالدين) من أهمية عند الله تعالى.
بالطبع فإن البر بالوالدين ليس مقتصراً على زمان وجودهم في الحياة بل يتعداه إلى ما بعد وفاتهم, وقد ورد في بعض الروايات أن من الناس من يكون باراً بوالديه في حياتهم عاقاً لهما بعد وفاتهما، ومن الناس من يكون عاقاً لهما في حياتهما باراً بعد الوفاة؛ حيث يستغفر لهما ويتصدق عنهما ويدعوا لهما فترضى عنه أرواحهما فيفوز بتلك البركات.
نعم، عليكم أن تلتفتوا أيها الشباب إلى أننا عندما نقول: إن للوالدين حقاً لا يعني ذلك أن يضيّع الإنسان حقوق الآخرين من أجل أبيه وأمه، نعم, حقوق الأب والأم مقدمة إلاّ أن الآخرين أيضاً لهم حقوق، فالزوجة لها حق والأولاد لهم حقوق وكذا الجيران والأخوة والأخوات والأصدقاء إلا أن الإنسان العاقل والذكي هو من يستطيع الجمع بين تلك الحقوق ويؤديها بأجمعها.
آمل من الله أن يوفقنا وإياكم وجميع المؤمنين لذلك.